30 - 04 - 2025

كلام والسلام | ترامب .. وحافة الهاوية

كلام والسلام | ترامب .. وحافة الهاوية

لاتصدق أن ترامب يضع أسسا جديدة للسياسة الأمريكية تجاه العالم .. لم يبتكرها أى رئيس امريكى قبله، بل صدق أنه يسير (على عجين ما يلخبطوش) كما يقول كتاب السياسة الأمريكى !

فمنذ عقود تتبع امريكا ما يعرف بسياسة حافة الهاوية.

وبرز مصطلح اللعب على حافة الهاوية  في الولاية الأولى للرئيس الأسبق دوايت آيزنهاور ، بالتزامن مع نضوج صراعات النفوذ فى العلاقات الدولية ، ومع بدايات الحرب الباردة والعداء الأميركي  للتجربة السوفييتية ومحاصرتها حول العالم .

وينسب إلى وزير خارجيته جون فوستر دالاس ترجمة المصطلح، بالتزامن مع اندلاع الحرب الكورية وتقسيم شبه الجزيرة فى خمسينيات القرن الماضى ، و تحذيره موسكو من تكلفة انتقام هائلة ضد الأهداف السوفييتية .

وعرّف دالاس سياسة امريكا الجديدة حينها، بامتلاك  القدرة على الوصول إلى حافة الهاوية دون الدخول في الحرب ، أى ممارسة التهديد باستخدام القوة العسكرية ، ومن ضمنها الحرب النووية ، لفرض الهيمنة على الاتحاد السوفييتى .

كما تم ذلك بالتزامن مع  بما عرف بأزمة خليج الخنازير والحصار الأمريكى لكوبا، والمستمر حتى الآن .

وجاء التحوّل  فى سياسة تصعيد واشنطن مع الرئيس الأسبق رونالد ريجان، الذى أطلق العنان لسباق التسلح بين الطرفين، باعلانه مبادرة الدفاع الاستراتيجى أو حرب النجوم، وإدخال أسلحة استراتيجية جديدة إلى الترسانة الأميركية ، لاستعداء محور الشر كما أسماه.

ثم تجدد الأمر مع الرئيس دونالد ترامب، وتصعيده لحدة الأزمة مع كوريا الشمالية ، مهدداً باستخدام السلاح النووى ضدها . وتميّزت ولايته بإعلاء شعار أميركا أولاً.  

أما وجهة الإدارة السابقة فى عهد الرئيس بايدن، فهى الحفاظ على النظام القائم على قواعد تشكل الصين تحدياً له ، وتهديدا مباشرا لهيبة امريكا. وتلك  القواعد التى أرست بالمقام الأول علاقة عاصمتى العملاقين: واشنطن وموسكو ، أسهمت في عدم انجرارهما إلى اشتباكات مباشرة ودخول عصر ما بعد الحرب الباردة.

وأقرب مثال لذلك .. هو الحرب الأوكرانية .

فعندما بدأت الحرب ، اتبعت أمريكا أسلوب الصراع بالوكالة  فى أوكرانيا ، فلم تتورط بشكل مباشر بإرسال قوات، أو تستجيب لدعوات كييف المستمرة بفرض حظر طيران، وحرص بايدن على الالتزام بتقديم المساعدات المالية والأسلحة غير الثقيلة فى البداية ، ثم أرسلت فيما بعد أسلحة أكثر تقدما ، مع حصار روسيا بسلاح العقوبات .

وكانت أغلب الأسلحة التي قدمتها امريكا والغرب أسلحة دفاعية ، هدفها إطالة أمد الحرب لإضعاف روسيا. وإضعاف روسيا لم يقتصر على الناحية العسكرية فقط ، وإنما الناحية الاقتصادية أيضا ، بمجموعة من الإجراءات العقابية، التى وصفت بأنها العقوبات الأكثر صرامة فى التاريخ الحديث.

وهنا يقال إن الاستراتيجيّين يُعيدون تعلّم دروس الحرب الباردة ، وأمريكا تعود لسياسة الاحتواء في التعامل مع روسيا. وهى إبقاء المنافس مشغولًا بتحديات داخل جغرافيته، حتى لا يحقق أى هيمنة إقليمية. ولضمان بقاء امريكا القوة الأكبر والأوحد المسيطرة على العالم، وهى سياسة خارجية استراتيجية تتبعها أمريكا، لوصف الاحتواء الجيوسياسى للاتحاد السوفيتى منذ الأربعينيات من القرن الماضي، ولمنع انتشار الشيوعية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية .

ويمثل الاحتواء موقفًا وسطًا بين الانفراج (الاسترخاء في العلاقات)، والتراجع (استبدال نظام بشكل فعال).

ولاحقا .. وضعت إدارة الرئيس الأمريكى بيل كلينتون سياسة الاحتواء المزدوج موضع التنفيذ، تجاه العراق وإيران لمنعهما من أى عمل يعرض مصالح أمريكا للخطر، بديلا عن سياسة توازن القوى بينهما التى كانت السياسة الرئيسية للإدارات الأمريكية السابقة .

وبالنسبة لإيران .. عملت الولايات المتحدة على احتواء قدراتها الاستراتيجية والعسكرية، من خلال عزلها عن المجتمع الدولى ، وفرض عقوبات اقتصادية للحد من قدرتها العسكرية والتقنية.

كما بدأت الولايات المتحدة حربًا تجارية فى عام 2018 خوفًا من صعود الصين . وتتفهم أمريكا تهديد الصعود الصينى، الذى يسعى لمنافسة نظامها، وتدرك أن طموحات الصين تتجاوز مجرد الجانب الاقتصادى.

ويريد الأمريكيون احتواء الصين، بدعم التحالفات الإقليمية وتعزيزها ، فمثلا للولايات المتحدة روابط مع تايوان , التى تمثل شوكة فى ظهر الصين , ويصاحب بناء التحالفات زيادة الإنفاق العسكري جنبًا إلى جنب مع حلفائها فى شرق آسيا لمحاصرة الصين ومنعها من الصعود.

ويأتى توسيع شبكة التحالفات كتطوير لسياسة الاحتواء من أجل تشتيت الصين، وبالمقابل تخشى الصين تجنيد أمريكا لحلفائها في الإقليم .

وهناك فريقان فى السياسة الأمريكية فى التعامل مع الصين: الفريق الأول مع تطبيق سياسة التحرر الاقتصادى مع الصين، والفريق الآخر ضد هذه السياسة.

ويسعى كلا الفريقين فى الإدارة الأمريكية إلى احتواء الصين بطرق مختلفة. ويتبع الطرف المتشكك الأساليب العلنية كالتحالفات والإنفاق العسكرى وسياسة الردع والسلوك الأقتصادى العدائى وعلى رأسها العقوبات.

بينما يأمل الفريق الذى يدفع في اتجاه التحرر الاقتصادى أن تتمكن سياسة السوق المفتوحة والرأسمالية، من زرع الأيديولوجية الغربية لدى الجمهور الصينى ، ولكن هذا لم ولن يحدث فى الصين على الأقل بنظامها الصارم اقتصاديا وسياسيا.  

وما يساعد تحقيق تلك السياسة هو خوف جيران الصين منها، ويعتبر الحوار الأمني الرباعي بين اليابان وأستراليا والهند والولايات المتحدة مثالا على بناء الشبكة الأمنية الأمريكية ، تشترك هذه الدول في الخوف من قوة الصين، وهذا هو العنصر المشترك الأكبر فى الاحتواء.

وأكبر مظهر لمحاولة كسر حصار الاحتواء مبادرة الحزام والطريق ، وهو أكبر مشروع للسياسة الخارجية الصينية, ويمكن لمبادرة الحزام والطريق إعادة تشكيل النظام الإقليمى فى أوراسيا، وتحييد النفوذ البحرى لأمريكا.

ويغطي المشروع نحو 70 دولة وثلثى سكان العالم ، وتراهن الصين على وزنها الاقتصادى لتحقيق العديد من الانتصارات السياسية والأقتصادية.

والصينيون ..  يدركون  أن الولايات المتحدة تعمل على عرقلتهم، وهذا ما يجعل عملية الاحتواء صعبة ، حيث تسخر الصين جميع مواردها وسياستها الخارجية والداخلية والإصلاحات الداخلية والتقدم العسكرى نحو تحييد التهديد الأمريكى لها .

ورغم ذلك .. يتمتع المتنافسان بروابط اقتصادية ضخمة يصعب قطعها ، ويمكن أن تتوصل كلتا القوتين إلى انفراج في العلاقات أو شكل من أشكال الاتفاق لتجنب التصعيد باعتباره الخيار الأكثر ملاءمة من خوض مواجهة كاملة .

كما استخدمت امريكا بجدارة الحرب بالوكالة، وهى حرب تنشأ عندما تستخدم القوى المتحاربة أطرافا أخرى للقتال بدلا عنها بشكل مباشر دون اللجوء إلى حرب شاملة، وقد بدأتها فى تجنيد الافغان العرب ضد الغزو الروسى لافغانستان فى ثمانينيات القرن الماضي والذين استخدمتهم بعد ذلك كذريعة فى حربها ضد الارهاب حول العالم ! وفى تجنيد الأكراد فى سوريا والعراق للحرب بالوكالة ضد الإيرانيين والروس هناك، ثم فى حرب الوكالة فى أوكرانيا، والآن كما يتوقع بشكل أو بآخر فى تايوان.

ورغم كل تلك الأساليب الأمريكية باللعب بالنار وتصاعد الأزمات حول أوكرانيا وتايوان وغيرهما، فان ذلك مهد الطريق لعلاقة غير مسبوقة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصينى شى جين بينج ، كأكبر خصمين لأمريكا.

واقعيا .. أمريكا غير مستعدة لخوض حرب فى أوكرانيا ولا لحرب من أجل تايوان.

واستراتيجيًا .. فأن أى وحدة جديدة بين الصين وروسيا ستمثل استنزافًا حقيقيا لواشنطن.

وبدلاً من إبطاء صعود الصين ساعد بوتين فى تسريعه، من خلال تعزيز التجارة وبيع الأسلحة والنفط والغاز. ومنذ وصول شي للسلطة ، ارتفعت الاستثمارات الصينية فى روسيا بصورة متسارعة .

ولذلك .. فان تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين الصين وروسيا يمثل أفضل فرصة لكبح جماح محاولة واشنطن أن تظل القوة العظمى الوحيدة فى العالم .
-----------------------------
بقلم : خالد حمزة
[email protected]


مقالات اخرى للكاتب

كلام والسلام | شخلل .. هتعدي